زمان كان الواحد منّا وحين يتجاوز عمره الثمانيني يبدأ بالقيام بما يشبه حفلات التوديع ، للاصدقاء والجيران والاقارب. وفي ضوء هذا المناخ الوداعي كان الثمانيني يستدعي اولاده فيخبرهم عن ديون عليه أكل عليها الدهر وشرب ولم يسددها ، وهو الآن يرجو ان يدخل لحده نظيفاً من أي دين ، ويرافق ذلك توضيحات عن تحويشة العمر والتي نذرها الرجل لتغطي تكاليف الكفن ، والدعوة لتناول الطعام على روحه ، والدعاء له.
زمان كان الناس يتناقلون اخبار الرجل الذي بات يودع عمره ، ويسألون عن ذاكرته ان كانت ما زالت بخير ، وعن صلواته ان ظل مستمراً بالقيام عليها أو انها صار يقطع في الصلاة واوقاتها ، محاولين الاطمئنان عليه من الخرف وأرذل العمر ، ومعاودته والسهر معه كل ليلة ، ومحاولة اشعاره بأن الحياة مازالت بخير ، وأن صحته وعافيته بألف خير.
وقد كان هذا التواصل الاجتماعي مع الرجل الثمانيني يبدو وكأنه حالة رجاء اجتماعي كي يتأخر في ذهابه الى المقبرة. فتجعل الرجل يظل يلح على الناس بعدم الابتعاد عنه والبقاء بجانبه ، مثلما يظل يلح عليهم بالاحاديث الطويلة التي تمنحه الوقت الكافي كي يظلوا بجانبه.
زمان كان الرجل وحينما يقارب الثمانين او يتجاوزها وحينما تبدأ معاناته مع سكرات الموت يستدعي الابناء والاحفاد وكل افراد العائلة كي يشهدوا موته ، ويشهد موته هو الآخر. وقد كان هذا الموت يبدو منطقياً ومقبولاً مع ان الموت حق في جميع الاحوال العمرية.
هذا زمان. اما في وقتنا الحالي فلم تعد الحياة تعطي الفرصة لأي واحد منّا أن يتدرج بالعمر ، فقد دخلت على حياتنا معطيات جديدة صارت كفيلة باختصار رحلة العمر وجعل الموت يبدو كالصفعة المفاجئة ، فالاجساد التي كانت تناطح الحياة بعافية قوية صارت تقع ضحية لامراض هجينة وطارئة. تلك الامراض التي ما أن تحط بالجسد ويخبرنا عنها الطبيب المناوب حتى يتحول البيت الى مناحة. فصار ارتفاع ضغط الدم من المعلومات الشعبية التي تدلل على الشلل المبكر ، وصار ارتفاع الكلسترول يدلل على احتمال الاصابة بالجلطة الرأسية أو القلبية.
وفي وقتنا الحالي صارت الحافلات والسيارات تحصد الارواح بشكل جماعي ، دون اي تفريق بالاعمار.
وفي زمننا المضارع هذا بقسوته اليومية والمعيشية صار يمكن للواحد منّا أن يموت قهراً وغيظاً الى الدرجة التي يمكن فيها القول ان فلاناً قد "طق" ومات.
يا الهي.. أيعقل ان نقول حتى الموت زمان كان أجمل